[color=green][b]سورة الجاثية الجزء السادس و العشرون
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (33)
وظهر لهؤلاء الذين كانوا يكذِّبون بآيات الله ما عملوا في الدنيا من الأعمال القبيحة, ونزل بهم من عذاب الله جزاء ما كانوا به يستهزئون.
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)
وقيل لهؤلاء الكفرة: اليوم نترككم في عذاب جهنم, كما تركتم الإيمان بربكم والعمل للقاء يومكم هذا, ومسكنكم نار جهنم, وما لكم من ناصرين ينصرونكم من عذاب الله.
ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمْ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
هذا الذي حلَّ بكم مِن عذاب الله ; بسبب أنكم اتخذتم آيات الله وحججه هزوًا ولعبًا, وخدعتكم زينة الحياة الدنيا, فاليوم لا يُخرجون من النار, ولا هم يُرَدُّون إلى الدنيا؛ ليتوبوا ويعملوا صالحًا.
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36)
فلله سبحانه وتعالى وحده الحمد على نعمه التي لا تحصى على خلقه, رب السموات والأرض وخالقهما ومدبرهما, رب الخلائق أجمعين.
وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
وله وحده سبحانه العظمة والجلال والكبرياء والسُّلْطان والقدرة والكمال في السموات والأرض, وهو العزيز الذي لا يغالَب, الحكيم في أقواله وأفعاله وقدره وشرعه, تعالى وتقدَّس, لا إله إلا هو.
46 - سورة الأحقاف - مكية - عدد آياتها 35
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1)
( حم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
هذا القرآن تنزيل من الله العزيز الذي لا يغالَب, الحكيم في تدبيره وصنعه.
مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق, لا عبثًا ولا سدى؛ بل ليعرف العباد عظمة خالقهما فيعبدوه وحده, ويعلموا أنه قادر على أن يعيد العباد بعد موتهم, وليقيموا الحق والعدل فيما بينهم وإلى أجل معلوم عنده. والذين جحدوا أن الله هو الإله الحق, عما أنذرهم به القرآن معرضون, لا يتعظون ولا يتفكرون.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء الكفار: أرأيتم الآلهة, والأوثان التي تعبدونها من دون الله, أروني أيَّ شيء خلقوا من الأرض, أم لهم مع الله نصيب من خلق السموات؟ ائتوني بكتاب من عند الله من قبل هذا القرآن أو ببقيَّة من علم, إن كنتم صادقين فيما تزعمون.
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)
لا أحد أضلُّ وأجهل ممن يدعو من دون الله آلهة لا تستجيب دعاءه أبدًا؛ لأنها من الأموات أو الأحجار والأشجار ونحوها, وهي غافلة عن دعاء مَن يعبدها, عاجزة عن نفعه أو ضره.
502
سورة الأحقاف الجزء السادس و العشرون
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
وإذا حُشر الناس يوم القيامة للحساب والجزاء كانت الآلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء, تلعنهم وتتبرأ منهم, وتنكر علمها بعبادتهم إياها.
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
وإذا تتلى على هؤلاء المشركين آياتنا واضحات, قال الذين كفروا حين جاءهم القرآن: هذا سحر ظاهر.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنْ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (
بل أيقول هؤلاء المشركون: إن محمدًا اختلق هذا القرآن؟ قل لهم -أيها الرسول-: إن اختلقته على الله فإنكم لا تقدرون أن تدفعوا عني من عقاب الله شيئًا, إن عاقبني على ذلك. هو سبحانه أعلم من كل شيء سواه بما تقولون في هذا القرآن, كفى بالله شاهدًا عليَّ وعليكم, وهو الغفور لمن تاب إليه, الرحيم بعباده المؤمنين.
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
قل -أيها الرسول- لمشركي قومك: ما كنتُ أول رسل الله إلى خلقه, وما أدري ما يفعل الله بي ولا بكم في الدنيا, ما أتبع فيما آمركم به وفيما أفعله إلا وحي الله الذي يوحيه إليَّ, وما أنا إلا نذير بيِّن الإنذار.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قل -أيها الرسول- لمشركي قومك: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به, وشهد شاهد من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام على مثل هذا القرآن, وهو ما في التوراة من التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فصدَّق وعمل بما جاء في القرآن, وجحدتم ذلك استكبارًا, فهل هذا إلا أعظم الظلم وأشد الكفر؟ إن الله لا يوفِّق إلى الإسلام وإصابة الحق القوم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بالله.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
وقال الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للذين آمنوا به: لو كان تصديقكم محمدًا على ما جاء به خيرًا ما سبقتمونا إلى التصديق به, وإذ لم يهتدوا بالقرآن ولم ينتفعوا بما فيه من الحق فسيقولون: هذا كذب, مأثور عن الناس الأقدمين.
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
ومن قبل هذا القرآن أنزلنا التوراة إمامًا لبني إسرائيل يقتدون بها, ورحمة لمن آمن بها وعمل بما فيها, وهذا القرآن مصدق لما قبله من الكتب, أنزلناه بلسان عربي؛ لينذر الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية, وبشرى للذين أطاعوا الله, فأحسنوا في إيمانهم وطاعتهم في الدنيا.
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)
إن الذين قالوا: ربنا الله, ثم استقاموا على الإيمان به, فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة وأهواله, ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا وراءهم بعد مماتهم من حظوظ الدنيا.
أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
أولئك أهل الجنة ماكثين فيها أبدًا برحمة الله تعالى لهم, وبما قدَّموا من عمل صالح في دنياهم.
503
سورة الأحقاف الجزء السادس و العشرون
وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (15)
ووصينا الإنسان أن يحسن في صحبته لوالديه بِرًّا بهما في حياتهما وبعد مماتهما, فقد حملته أمه جنينًا في بطنها على مشقة وتعب, وولدته على مشقة وتعب أيضًا, ومدة حمله وفطامه ثلاثون شهرًا. وفي ذكر هذه المشاق التي تتحملها الأم دون الأب, دليل على أن حقها على ولدها أعظم من حق الأب. حتى إذا بلغ هذا الإنسان نهاية قوته البدنية والعقلية, وبلغ أربعين سنة دعا ربه قائلا: ربي ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمتها عليَّ وعلى والديَّ, واجعلني أعمل صالحًا ترضاه, وأصلح لي في ذريتي, إني تبت إليك من ذنوبي, وإني من الخاضعين لك بالطاعة والمستسلمين لأمرك ونهيك, المنقادين لحكمك.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
أولئك الذين نتقبل منهم أحسن ما عملوا من صالحات الأعمال, ونصفح عن سيئاتهم, في جملة أصحاب الجنة, هذا الوعد الذي وعدناهم به هو وعد الصدق الحق الذي لا شك فيه.
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (17)
والذي قال لوالديه إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث: قبحًا لكما أتعِدانني أن أُخْرج من قبري حيًا, وقد مضت القرون من الأمم من قبلي, فهلكوا فلم يُبعث منهم أحد؟ ووالداه يسألان الله هدايته قائلَين له: ويلك, آمن وصدِّق واعمل صالحًا, إن وعد الله بالبعث حق لا شك فيه, فيقول لهما: ما هذا الذي تقولانه إلا ما سطَّره الأولون من الأباطيل, منقول من كتبهم.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
أولئك الذين هذه صفتهم وجب عليهم عذاب الله, وحلَّت بهم عقوبته وسخطه في جملة أمم مضت مِن قبلهم مِنَ الجن والإنس على الكفر والتكذيب, إنهم كانوا خاسرين ببيعهم الهدى بالضلال, والنعيم بالعذاب.
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)
ولكل فريق من أهل الخير وأهل الشر منازل عند الله يوم القيمة; بأعمالهم التي عملوها في الدنيا, كل على وَفْق مرتبته؛ وليوفيهم الله جزاء أعمالهم, وهم لا يُظلمون بزيادة في سيئاتهم, ولا بنقص من حسناتهم.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
ويوم يعرض الذين كفروا على النار للعذاب, فيقال لهم توبيخًا: لقد أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها, فاليوم - أيها الكفار- تُجْزَون عذاب الخزي والهوان في النار؛ بما كنتم تتكبرون في الأرض بغير الحق, وبما كنتم تخرجون عن طاعة الله.
504
سورة الأحقاف الجزء السادس و العشرون
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
واذكر -أيها الرسول- نبيَّ الله هودًا أخا عاد في النَّسب لا في الدين, حين أنذر قومه أن يحل بهم عقاب الله, وهم في منازلهم المعروفة بـ "الأحقاف", وهي الرمال الكثيرة جنوب الجزيرة العربية, وقد مضت الرسل بإنذار قومها قبل هود وبعده: بأن لا تشركوا مع الله شيئًا في عبادتكم له, إني أخاف عليكم عذاب الله في يوم يَعْظُم هوله, وهو يوم القيامة.
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (22)
قالوا: أجئتنا بدعوتك ؛ لتصرفنا عن عبادة آلهتنا؟ فأتنا بما تعدنا به من العذاب, إن كنت من أهل الصدق في قولك ووعدك.
قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23)
قال هود عليه السلام: إنما العلم بوقت مجيء ما وُعدتم به من العذاب عند الله, وإنما أنا رسول الله إليكم, أبلغكم عنه ما أرسلني به, ولكني أراكم قومًا تجهلون في استعجالكم العذاب, وجرأتكم على الله.
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)
فلما رأوا العذاب الذي استعجلوه عارضًا في السماء متجهًا إلى أوديتهم قالوا: هذا سحاب ممطر لنا, فقال لهم هود عليه السلام: ليس هو بعارض غيث ورحمة كما ظننتم, بل هو عارض العذاب الذي استعجلتموه, فهو ريح فيها عذاب مؤلم موجع.
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
تدمِّر كل شيء تمر به مما أُرسلت بهلاكه بأمر ربها ومشيئته, فأصبحوا لا يُرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم التي كانوا يسكنونها, مثل هذا الجزاء نجزي القوم المجرمين؛ بسبب جرمهم وطغيانهم.
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (26)
ولقد يسَّرنا لعاد أسباب التمكين في الدنيا على نحوٍ لم نمكنكم فيه معشر كفار قريش, وجعلنا لهم سمعًا يسمعون به, وأبصارًا يبصرون بها, وأفئدة يعقلون بها, فاستعملوها فيما يسخط الله عليهم, فلم تغن عنهم شيئًا إذ كانوا يكذِّبون بحجج الله, ونزل بهم من العذاب ما سخروا به واستعجلوه. وهذا وعيد من الله جل شأنه, وتحذير للكافرين.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنْ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)
ولقد أهلكنا ما حولكم يا أهل "مكة" من القرى كعاد وثمود, فجعلناها خاوية على عروشها, وبيَّنَّا لهم أنواع الحجج والدلالات ؛ لعلهم يرجعون عما كانوا عليه من الكفر بالله وآياته.
فَلَوْلا نَصَرَهُمْ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
فهلا نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية آلهتُهم التي اتخذوا عبادتها قربانًا يتقربون بها إلى ربهم; لتشفع لهم عنده, بل ضلَّت عنهم آلهتهم, فلم يجيبوهم, ولا دافعوا عنهم, وذلك كذبهم وما كانوا يَفْتَرون في اتخاذهم إياهم آلهة.
505
سورة الأحقاف الجزء السادس و العشرون
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
واذكر -أيها الرسول- حين بعثنا إليك, طائفة من الجن يستمعون منك القرآن, فلما حضروا, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ, قال بعضهم لبعض: أنصتوا; لنستمع القرآن, فلما فرغ الرسول من تلاوة القرآن, وقد وعَوه وأثَّر فيهم, رجعوا إلى قومهم منذرين ومحذرين لهم بأس الله, إن لم يؤمنوا به.
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
قالوا: يا قومنا إنا سمعنا كتابًا أنزل من بعد موسى, مصدقًا لما قبله من كتب الله التي أنزلها على رسله, يهدي إلى الحق والصواب, وإلى طريق صحيح مستقيم.
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)
يا قومنا أجيبوا رسول الله محمدًا إلى ما يدعوكم إليه, وصدِّقوه واعملوا بما جاءكم به, يغفر الله لكم من ذنوبكم وينقذكم من عذاب مؤلم موجع.
وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)
ومن لا يُجِبْ رسول الله إلى ما دعا إليه فليس بمعجز الله في الأرض إذا أراد عقوبته, وليس له من دون الله أنصار يمنعونه من عذابه, أولئك في ذَهاب واضح عن الحق.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
أغَفَلوا ولم يعلموا أنَّ الله الذي خلق السموات والأرض على غير مثال سبق, ولم يعجز عن خلقهن, قادر على إحياء الموتى الذين خلقهم أوّلا؟ بلى, ذلك أمر يسير على الله تعالى الذي لا يعجزه شيء, إنه على كل شيء قدير.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
ويوم القيامة يُعْرَض الذين كفروا على نار جهنم للعذاب فيقال لهم: أليس هذا العذاب بالحق؟ فيجيبون قائلين: بلى وربنا هو الحق, فيقال لهم: فذوقوا العذاب بما كنتم تجحدون عذاب النار وتنكرونه في الدنيا.
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
فاصبر -أيها الرسول- على ما أصابك مِن أذى قومك المكذبين لك, كما صبر أولو العزم من الرسل من قبلك- وهم، على المشهور: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وأنت منهم- ولا تستعجل لقومك العذاب; فحين يقع ويرونه كأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار, هذا بلاغ لهم ولغيرهم. ولا يُهْلَكُ بعذاب الله إلا القوم الخارجون عن أمره وطاعته.
506
47 - سورة محمد - مدنية - عدد آياتها 38
سورة محمد r الجزء السادس و العشرون
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)
الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له, وصدوا الناس عن دينه, أَذْهَبَ الله أعمالهم, وأبطلها, وأشقاهم بسببها.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
والذين صدَّقوا الله واتَّبَعوا شرعه وصدَّقوا بالكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الحق الذي لا شك فيه من ربهم, عفا عنهم وستر عليهم ما عملوا من السيئات, فلم يعاقبهم عليها, وأصلح شأنهم في الدينا والآخرة.
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
ذلك الإضلال والهدى سببه أن الذين كفروا اتَّبَعوا الشيطان فأطاعوه, وأن الذين آمنوا اتَّبَعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من النور والهدى, كما بيَّن الله تعالى فِعْلَه بالفريقين أهل الكفر وأهل الإيمان بما يستحقان يضرب سبحانه للناس أمثالهم, فيلحق بكل قوم من الأمثال والأشكال ما يناسبه.
فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
فإذا لقيتم- أيها المؤمنون- الذين كفروا في ساحات الحرب فاصدقوهم القتال, واضربوا منهم الأعناق, حتى إذا أضعفتموهم بكثرة القتل, وكسرتم شوكتهم, فأحكموا قيد الأسرى: فإما أن تَمُنُّوا عليهم بفك أسرهم بغير عوض, وإما أن يفادوا أنفسهم بالمال أو غيره, وإما أن يُسْتَرَقُّوا أو يُقْتَلوا, واستمِرُّوا على ذلك حتى تنتهي الحرب. ذلك الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين ومداولة الأيام بينهم, ولو يشاء الله لانتصر للمؤمنين من الكافرين بغير قتال, ولكن جعل عقوبتهم على أيديكم, فشرع الجهاد؛ ليختبركم بهم, ولينصر بكم دينه. والذين قُتلوا في سبيل الله من المؤمنين فلن يُبْطِل الله ثواب أعمالهم, سيوفقهم أيام حياتهم في الدنيا إلى طاعته ومرضاته, ويُصْلح حالهم وأمورهم وثوابهم في الدنيا والآخرة, ويدخلهم الجنة, عرَّفهم بها ونعتها لهم، ووفقهم للقيام بما أمرهم به -ومن جملته الشهادة في سبيله-، ثم عرَّفهم إذا دخلوا الجنة منازلهم بها.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إن تنصروا دين الله بالجهاد في سبيله, والحكم بكتابه, وامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, ينصركم الله على أعدائكم, ويثبت أقدامكم عند القتال.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
والذين كفروا فهلاكًا لهم, وأذهب الله ثواب أعمالهم؛ ذلك بسبب أنهم كرهوا كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكذبوا به, فأبطل أعمالهم; لأنها كانت في طاعة الشيطان.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)
أفلم يَسِرْ هؤلاء الكفار في أرض الله معتبرين بما حلَّ بالأمم المكذبة قبلهم من العقاب؟ دمَّر الله عليهم ديارهم, وللكافرين أمثال تلك العاقبة التي حلت بتلك الأمم.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ (11)
ذلك الذي فعلناه بالفريقين فريق الإيمان وفريق الكفر; بسبب أن الله وليُّ المؤمنين ونصيرهم, وأن الكافرين لا وليَّ لهم ولا نصير.
507
سورة محمد r الجزء السادس و العشرون
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
إن الله يدخل الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار تَكْرِمَةً لهم, ومثل الذين كفروا في أكلهم وتمتعهم بالدنيا, كمثل الأنعام من البهائم التي لا همَّ لها إلا في الاعتلاف دون غيره, ونار جهنم مسكن لهم ومأوى.
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
وكثير من أهل قرى كانوا أشد بأسًا من أهل قريتك -أيها الرسول, وهي "مكة"- التي أخرجتك, دمَّرناهم بأنواع من العذاب, فلم يكن لهم نصير ينصرهم من عذاب الله.
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
أفمن كان على برهان واضح من ربه والعلم بوحدانيته, كمن حسَّن له الشيطان قبيح عمله, واتبع ما دعته إليه نفسه من معصية الله وعبادة غيره مِن غير حجة ولا برهان؟ لا يستوون.
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
صفة الجنة التي وعدها الله المتقين: فيها أنهارٌ عظيمة من ماء غير متغيِّر, وأنهار من لبن لم يتغيَّر طعمه, وأنهار من خمر يتلذذ به الشاربون, وأنهار من عسل قد صُفِّي من القذى, ولهؤلاء المتقين في هذه الجنة جميع الثمرات من مختلف الفواكه وغيرها, وأعظم من ذلك السَّتر والتجاوزُ عن ذنوبهم, هل مَن هو في هذه الجنة كمَن هو ماكث في النار لا يخرج منها, وسُقوا ماء تناهى في شدة حره فقطَّع أمعاءهم؟
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
ومن هؤلاء المنافقين مَن يستمع إليك -أيها النبي- بغير فهم؛ تهاونًا منهم واستخفافًا, حتى إذا انصرفوا من مجلسك قالوا لمن حضروا مجلسك من أهل العلم بكتاب الله على سبيل الاستهزاء: ماذا قال محمد الآن؟ أولئك الذين ختم الله على قلوبهم, فلا تفقه الحق ولا تهتدي إليه, واتبعوا أهواءهم في الكفر والضلال.
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17)
والذين اهتدوا لاتِّباع الحق زادهم الله هدى, فقوي بذلك هداهم, ووفقهم للتقوى, ويسَّرها لهم.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا الساعة التي وُعدوا بها أن تجيئهم فجأةً, فقد ظهرت علاماتها ولم ينتفعوا بذلك, فمن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة؟
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
فاعلم -أيها النبي- أنه لا معبود بحق إلا الله, واستغفر لذنبك, واستغفر للمؤمنين والمؤمنات. والله يعلم تصرفكم في يقظتكم نهارًا, ومستقركم في نومكم ليلا.
508
سورة محمد r الجزء السادس و العشرون
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ (21)
ويقول الذين آمنوا بالله ورسوله: هلا نُزِّلت سورة من الله تأمرنا بجهاد الكفار, فإذا أُنزِلت سورة محكمة بالبيان والفرائض وذُكر فيها الجهاد, رأيت الذين في قلوبهم شك في دين الله ونفاق ينظرون إليك -أيها النبي- نظر الذي قد غُشِيَ عليه خوفَ الموت, فأولى لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض أن يطيعوا الله, وأن يقولوا قولا موافقًا للشرع. فإذا وجب القتال وجاء أمر الله بِفَرْضه كره هؤلاء المنافقون ذلك, فلو صدقوا الله في الإيمان والعمل لكان خيرًا لهم من المعصية والمخالفة.
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)
فلعلكم إن أعرضتم عن كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن تعصوا الله في الأرض, فتكفروا به وتسفكوا الدماء وتُقَطِّعوا أرحامكم.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
أولئك الذين أبعدهم الله من رحمته, فجعلهم لا يسمعون ما ينفعهم ولا يبصرونه, فلم يتبينوا حجج الله مع كثرتها.
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ القرآن ويتفكرون في حججه؟ بل هذه القلوب مغلَقة لا يصل إليها شيء من هذا القرآن, فلا تتدبر مواعظ الله وعبره.
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)
إن الذين ارتدُّوا عن الهدى والإيمان, ورجعوا على أعقابهم كفارًا بالله من بعد ما وَضَح لهم الحق, الشيطان زيَّن لهم خطاياهم, ومدَّ لهم في الأمل.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)
ذلك الإمداد لهم حتى يتمادوا في الكفر ; بسبب أنهم قالوا لليهود الذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر الذي هو خلاف لأمر الله وأمر رسوله, والله تعالى يعلم ما يخفيه هؤلاء ويسرونه, فليحذر المسلم من طاعة غير الله فيما يخالف أمر الله سبحانه, وأمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)
فكيف حالهم إذا قبضت الملائكة أرواحهم وهم يضربون وجوههم وأدبارهم؟
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
ذلك العذاب الذي استحقوه ونالوه؛ بسبب أنهم اتبعوا ما أسخط الله عليهم من طاعة الشيطان, وكرهوا ما يرضيه عنهم من العمل الصالح, ومنه قتال الكفار بعدما افترضه عليهم, فأبطل الله ثواب أعمالهم من صدقة وصلة رحم وغير ذلك.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)
بل أظنَّ المنافقون أن الله لن يُخْرِج ما في قلوبهم من الحسد والحقد للإسلام وأهله؟ بلى فإن الله يميز الصادق من الكاذب.
509
سورة محمد r الجزء السادس و العشرون
وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
ولو نشاء -أيها النبي- لأريناك أشخاصهم, فلعرفتهم بعلامات ظاهرة فيهم, ولتعرفنَّهم فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم. والله تعالى لا تخفى عليه أعمال مَن أطاعه ولا أعمال من عصاه, وسيجازي كلا بما يستحق.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
ولنختبرنكم- أيها المؤمنون- بالقتال والجهاد لأعداء الله حتى يظهر ما علمه سبحانه في الأزل؛ لنميز أهل الجهاد منكم والصبر على قتال أعداء الله, ونختبر أقوالكم وأفعالكم, فيظهر الصادق منكم من الكاذب.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
إن الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له, وصدوا الناس عن دينه, وخالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاربوه من بعد ما جاءتهم الحجج والآيات أنه نبي من عند الله, لن يضروا دين الله شيئًا, وسيُبْطِل ثواب أعمالهم التي عملوها في الدنيا؛ لأنهم لم يريدوا بها وجه الله تعالى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في أمرهما ونهيهما, ولا تبطلوا ثواب أعمالكم بالكفر والمعاصي.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
إن الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له وصدُّوا الناس عن دينه, ثم ماتوا على ذلك, فلن يغفر الله لهم, وسيعذبهم عقابًا لهم على كفرهم, ويفضحهم على رؤوس الأشهاد.
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
فلا تضعفوا -أيها المؤمنون بالله ورسوله- عن جهاد المشركين, وتجْبُنوا عن قتالهم, وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة, وأنتم القاهرون لهم والعالون عليهم, والله تعالى معكم بنصره وتأييده. وفي ذلك بشارة عظيمة بالنصر والظَّفَر على الأعداء. ولن يُنْقصكم الله ثواب أعمالكم.
إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)
إنما الحياة الدنيا لعب وغرور. وإن تؤمنوا بالله ورسوله, وتتقوا الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه, يؤتكم ثواب أعمالكم, ولا يسألْكم إخراج أموالكم جميعها في الزكاة, بل يسألكم إخراج بعضها. إن يسألكم أموالكم, فيُلِحَّ عليكم ويجهدكم, تبخلوا بها وتمنعوه إياها, ويظهر ما في قلوبكم من الحقد إذا طلب منكم ما تكرهون بذله.
هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
ها أنتم -أيها المؤمنون- تُدْعَون إلى النفقة في جهاد أعداء الله ونصرة دينه, فمنكم مَن يَبْخَلُ بالنفقة في سبيل الله, ومَن يَبْخَلْ فإنما يبخل عن نفسه, والله تعالى هو الغنيُّ عنكم وأنتم الفقراء إليه, وإن تتولوا عن الإيمان بالله وامتثال أمره يهلكُّم, ويأت بقوم آخرين, ثم لا يكونوا أمثالكم في التولي عن أمر الله, بل يطيعونه ويطيعون رسوله, ويجاهدون في سبيله بأموالهم وأنفسهم.
510
48 - سورة الفتح - مدنية - عدد آياتها 29
سورة الفتح الجزء السادس و العشرون
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)
إنا فتحنا لك -أيها الرسول- فتحًا مبينًا, يظهر الله فيه دينك, وينصرك على عدوك, وهو هدنة "الحديبية" التي أمن الناس بسببها بعضهم بعضًا, فاتسعت دائرة الدعوة لدين الله, وتمكن من يريد الوقوف على حقيقة الإسلام مِن معرفته, فدخل الناس تلك المدة في دين الله أفواجًا؛ ولذلك سمَّاه الله فتحًا مبينًا، أي ظاهرًا جليًّا.
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)
فتحنا لك ذلك الفتح, ويسَّرناه لك؛ ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؛ بسبب ما حصل من هذا الفتح من الطاعات الكثيرة وبما تحملته من المشقات, ويتم نعمته عليك بإظهار دينك ونصرك على أعدائك, ويرشدك طريقًا مستقيمًا من الدين لا عوج فيه، وينصرك الله نصرًا قويًّا لا يَضْعُف فيه الإسلام.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)
هو الله الذي أنزل الطمأنينة في قلوب المؤمنين بالله ورسوله يوم "الحديبية" فسكنت, ورسخ اليقين فيها؛ ليزدادوا تصديقًا لله واتباعًا لرسوله مع تصديقهم واتباعهم. ولله سبحانه وتعالى جنود السموات والأرض ينصر بهم عباده المؤمنين. وكان الله عليمًا بمصالح خلقه, حكيمًا في تدبيره وصنعه.
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5)
ليدخل الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري مِن تحت أشجارها وقصورها الأنهار, ماكثين فيها أبدًا, ويمحو عنهم سيِّئ ما عملوا, فلا يعاقبهم عليه, وكان ذلك الجزاء عند الله نجاة من كل غم, وظَفَرًا بكل مطلوب.
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً (6)
ويعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين يظنون ظنًا سيئًا بالله أنه لن ينصر نبيه والمؤمنين معه على أعدائهم, ولن يُظهر دينه, فعلى هؤلاء تدور دائرة العذاب وكل ما يسوءهم, وغضب الله عليهم, وطردهم من رحمته, وأعدَّ لهم نار جهنم, وساءت منزلا يصيرون إليه.
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)
ولله سبحانه وتعالى جنود السموات والأرض يؤيد بهم عباده المؤمنين. وكان الله عزيزًا على خلقه, حكيمًا في تدبير أمورهم.
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (
إنا أرسلناك -أيها الرسول- شاهدًا على أمتك بالبلاغ, مبينًا لهم ما أرسلناك به إليهم, ومبشرًا لمن أطاعك بالجنة, ونذيرًا لمن عصاك بالعقاب العاجل والآجل؛ لتؤمنوا بالله ورسوله, وتنصروا الله بنصر دينه, وتعظموه, وتسبحوه أول النهار وآخره.
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)
إن الذين يبايعونك -أيها النبي- بـ "الحديبية" على القتال إنما يبايعون الله, ويعقدون العقد معه ابتغاء جنته ورضوانه, يد الله فوق أيديهم, فهو معهم يسمع أقوالهم, ويرى مكانهم, ويعلم ضمائرهم وظواهرهم, فمن نقض بيعته فإنما يعود وبال ذلك على نفسه, ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدو في سبيل الله ونصرة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, فسيعطيه الله ثوابًا جزيلا وهو الجنة. وفي الآية إثبات صفة اليد لله تعالى بما يليق به سبحانه, دون تشبيه ولا تكييف.
511
سورة الفتح الجزء السادس و العشرون
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)
سيقول لك -أيها النبي- الذين تخلَّفوا من الأعراب عن الخروج معك إلى "مكة" إذا عاتبتهم: شغلتنا أموالنا وأهلونا, فاسأل ربك أن يغفر لنا تخلُّفنا, يقولون ذلك بألسنتهم, ولا حقيقة له في قلوبهم, قل لهم: فمن يملك لكم من الله شيئًا إن أراد بكم شرًا أو خيرًا؟ ليس الأمر كما ظن هؤلاء المنافقون أن الله لا يعلم ما انطوت عليه بواطنهم من النفاق, بل إنه سبحانه كان بما يعملون خبيرًا, لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه.
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12)
وليس الأمر كما زعمتم من انشغالكم بالأموال والأهل, بل إنكم ظننتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه سيَهْلكون, ولا يَرْجعون إليكم أبدًا, وحسَّن الشيطان ذلك في قلوبكم, وظننتم ظنًا سيئًا أن الله لن ينصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أعدائهم, وكنتم قومًا هَلْكى لا خير فيكم.
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً (13)
ومن لم يصدِّق بالله وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم ويعمل بشرعه, فإنه كافر مستحق للعقاب, فإنا أعددنا للكافرين عذاب السعير في النار.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)
ولله ملك السموات والأرض وما فيهما, يتجاوز برحمته عمن يشاء فيستر ذنبه, ويعذِّب بعدله من يشاء. وكان الله سبحانه وتعالى غفورًا لمن تاب إليه, رحيمًا به.
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)
سيقول المخلَّفون, إذا انطلقت -أيها النبي- أنت وأصحابك إلى غنائم "خيبر" التي وعدكم الله بها, اتركونا نذهب معكم إلى "خيبر", يريدون أن يغيِّروا بذلك وعد الله لكم. قل لهم: لن تخرجوا معنا إلى "خيبر"؛ لأن الله تعالى قال لنا من قبل رجوعنا إلى "المدينة": إن غنائم "خيبر" هي لمن شهد "الحديبية" معنا, فسيقولون: ليس الأمر كما تقولون, إن الله لم يأمركم بهذا, إنكم تمنعوننا من الخروج معكم حسدًا منكم؛ لئلا نصيب معكم الغنيمة, وليس الأمر كما زعموا, بل كانوا لا يفقهون عن الله ما لهم وما عليهم من أمر الدين إلا يسيرًا.
512
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (33)
وظهر لهؤلاء الذين كانوا يكذِّبون بآيات الله ما عملوا في الدنيا من الأعمال القبيحة, ونزل بهم من عذاب الله جزاء ما كانوا به يستهزئون.
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)
وقيل لهؤلاء الكفرة: اليوم نترككم في عذاب جهنم, كما تركتم الإيمان بربكم والعمل للقاء يومكم هذا, ومسكنكم نار جهنم, وما لكم من ناصرين ينصرونكم من عذاب الله.
ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمْ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
هذا الذي حلَّ بكم مِن عذاب الله ; بسبب أنكم اتخذتم آيات الله وحججه هزوًا ولعبًا, وخدعتكم زينة الحياة الدنيا, فاليوم لا يُخرجون من النار, ولا هم يُرَدُّون إلى الدنيا؛ ليتوبوا ويعملوا صالحًا.
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36)
فلله سبحانه وتعالى وحده الحمد على نعمه التي لا تحصى على خلقه, رب السموات والأرض وخالقهما ومدبرهما, رب الخلائق أجمعين.
وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
وله وحده سبحانه العظمة والجلال والكبرياء والسُّلْطان والقدرة والكمال في السموات والأرض, وهو العزيز الذي لا يغالَب, الحكيم في أقواله وأفعاله وقدره وشرعه, تعالى وتقدَّس, لا إله إلا هو.
46 - سورة الأحقاف - مكية - عدد آياتها 35
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1)
( حم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
هذا القرآن تنزيل من الله العزيز الذي لا يغالَب, الحكيم في تدبيره وصنعه.
مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق, لا عبثًا ولا سدى؛ بل ليعرف العباد عظمة خالقهما فيعبدوه وحده, ويعلموا أنه قادر على أن يعيد العباد بعد موتهم, وليقيموا الحق والعدل فيما بينهم وإلى أجل معلوم عنده. والذين جحدوا أن الله هو الإله الحق, عما أنذرهم به القرآن معرضون, لا يتعظون ولا يتفكرون.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء الكفار: أرأيتم الآلهة, والأوثان التي تعبدونها من دون الله, أروني أيَّ شيء خلقوا من الأرض, أم لهم مع الله نصيب من خلق السموات؟ ائتوني بكتاب من عند الله من قبل هذا القرآن أو ببقيَّة من علم, إن كنتم صادقين فيما تزعمون.
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)
لا أحد أضلُّ وأجهل ممن يدعو من دون الله آلهة لا تستجيب دعاءه أبدًا؛ لأنها من الأموات أو الأحجار والأشجار ونحوها, وهي غافلة عن دعاء مَن يعبدها, عاجزة عن نفعه أو ضره.
502
سورة الأحقاف الجزء السادس و العشرون
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
وإذا حُشر الناس يوم القيامة للحساب والجزاء كانت الآلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء, تلعنهم وتتبرأ منهم, وتنكر علمها بعبادتهم إياها.
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
وإذا تتلى على هؤلاء المشركين آياتنا واضحات, قال الذين كفروا حين جاءهم القرآن: هذا سحر ظاهر.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنْ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (
بل أيقول هؤلاء المشركون: إن محمدًا اختلق هذا القرآن؟ قل لهم -أيها الرسول-: إن اختلقته على الله فإنكم لا تقدرون أن تدفعوا عني من عقاب الله شيئًا, إن عاقبني على ذلك. هو سبحانه أعلم من كل شيء سواه بما تقولون في هذا القرآن, كفى بالله شاهدًا عليَّ وعليكم, وهو الغفور لمن تاب إليه, الرحيم بعباده المؤمنين.
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
قل -أيها الرسول- لمشركي قومك: ما كنتُ أول رسل الله إلى خلقه, وما أدري ما يفعل الله بي ولا بكم في الدنيا, ما أتبع فيما آمركم به وفيما أفعله إلا وحي الله الذي يوحيه إليَّ, وما أنا إلا نذير بيِّن الإنذار.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قل -أيها الرسول- لمشركي قومك: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به, وشهد شاهد من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام على مثل هذا القرآن, وهو ما في التوراة من التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فصدَّق وعمل بما جاء في القرآن, وجحدتم ذلك استكبارًا, فهل هذا إلا أعظم الظلم وأشد الكفر؟ إن الله لا يوفِّق إلى الإسلام وإصابة الحق القوم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بالله.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
وقال الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للذين آمنوا به: لو كان تصديقكم محمدًا على ما جاء به خيرًا ما سبقتمونا إلى التصديق به, وإذ لم يهتدوا بالقرآن ولم ينتفعوا بما فيه من الحق فسيقولون: هذا كذب, مأثور عن الناس الأقدمين.
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
ومن قبل هذا القرآن أنزلنا التوراة إمامًا لبني إسرائيل يقتدون بها, ورحمة لمن آمن بها وعمل بما فيها, وهذا القرآن مصدق لما قبله من الكتب, أنزلناه بلسان عربي؛ لينذر الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية, وبشرى للذين أطاعوا الله, فأحسنوا في إيمانهم وطاعتهم في الدنيا.
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)
إن الذين قالوا: ربنا الله, ثم استقاموا على الإيمان به, فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة وأهواله, ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا وراءهم بعد مماتهم من حظوظ الدنيا.
أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
أولئك أهل الجنة ماكثين فيها أبدًا برحمة الله تعالى لهم, وبما قدَّموا من عمل صالح في دنياهم.
503
سورة الأحقاف الجزء السادس و العشرون
وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (15)
ووصينا الإنسان أن يحسن في صحبته لوالديه بِرًّا بهما في حياتهما وبعد مماتهما, فقد حملته أمه جنينًا في بطنها على مشقة وتعب, وولدته على مشقة وتعب أيضًا, ومدة حمله وفطامه ثلاثون شهرًا. وفي ذكر هذه المشاق التي تتحملها الأم دون الأب, دليل على أن حقها على ولدها أعظم من حق الأب. حتى إذا بلغ هذا الإنسان نهاية قوته البدنية والعقلية, وبلغ أربعين سنة دعا ربه قائلا: ربي ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمتها عليَّ وعلى والديَّ, واجعلني أعمل صالحًا ترضاه, وأصلح لي في ذريتي, إني تبت إليك من ذنوبي, وإني من الخاضعين لك بالطاعة والمستسلمين لأمرك ونهيك, المنقادين لحكمك.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
أولئك الذين نتقبل منهم أحسن ما عملوا من صالحات الأعمال, ونصفح عن سيئاتهم, في جملة أصحاب الجنة, هذا الوعد الذي وعدناهم به هو وعد الصدق الحق الذي لا شك فيه.
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (17)
والذي قال لوالديه إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث: قبحًا لكما أتعِدانني أن أُخْرج من قبري حيًا, وقد مضت القرون من الأمم من قبلي, فهلكوا فلم يُبعث منهم أحد؟ ووالداه يسألان الله هدايته قائلَين له: ويلك, آمن وصدِّق واعمل صالحًا, إن وعد الله بالبعث حق لا شك فيه, فيقول لهما: ما هذا الذي تقولانه إلا ما سطَّره الأولون من الأباطيل, منقول من كتبهم.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
أولئك الذين هذه صفتهم وجب عليهم عذاب الله, وحلَّت بهم عقوبته وسخطه في جملة أمم مضت مِن قبلهم مِنَ الجن والإنس على الكفر والتكذيب, إنهم كانوا خاسرين ببيعهم الهدى بالضلال, والنعيم بالعذاب.
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)
ولكل فريق من أهل الخير وأهل الشر منازل عند الله يوم القيمة; بأعمالهم التي عملوها في الدنيا, كل على وَفْق مرتبته؛ وليوفيهم الله جزاء أعمالهم, وهم لا يُظلمون بزيادة في سيئاتهم, ولا بنقص من حسناتهم.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
ويوم يعرض الذين كفروا على النار للعذاب, فيقال لهم توبيخًا: لقد أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها, فاليوم - أيها الكفار- تُجْزَون عذاب الخزي والهوان في النار؛ بما كنتم تتكبرون في الأرض بغير الحق, وبما كنتم تخرجون عن طاعة الله.
504
سورة الأحقاف الجزء السادس و العشرون
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
واذكر -أيها الرسول- نبيَّ الله هودًا أخا عاد في النَّسب لا في الدين, حين أنذر قومه أن يحل بهم عقاب الله, وهم في منازلهم المعروفة بـ "الأحقاف", وهي الرمال الكثيرة جنوب الجزيرة العربية, وقد مضت الرسل بإنذار قومها قبل هود وبعده: بأن لا تشركوا مع الله شيئًا في عبادتكم له, إني أخاف عليكم عذاب الله في يوم يَعْظُم هوله, وهو يوم القيامة.
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (22)
قالوا: أجئتنا بدعوتك ؛ لتصرفنا عن عبادة آلهتنا؟ فأتنا بما تعدنا به من العذاب, إن كنت من أهل الصدق في قولك ووعدك.
قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23)
قال هود عليه السلام: إنما العلم بوقت مجيء ما وُعدتم به من العذاب عند الله, وإنما أنا رسول الله إليكم, أبلغكم عنه ما أرسلني به, ولكني أراكم قومًا تجهلون في استعجالكم العذاب, وجرأتكم على الله.
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)
فلما رأوا العذاب الذي استعجلوه عارضًا في السماء متجهًا إلى أوديتهم قالوا: هذا سحاب ممطر لنا, فقال لهم هود عليه السلام: ليس هو بعارض غيث ورحمة كما ظننتم, بل هو عارض العذاب الذي استعجلتموه, فهو ريح فيها عذاب مؤلم موجع.
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
تدمِّر كل شيء تمر به مما أُرسلت بهلاكه بأمر ربها ومشيئته, فأصبحوا لا يُرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم التي كانوا يسكنونها, مثل هذا الجزاء نجزي القوم المجرمين؛ بسبب جرمهم وطغيانهم.
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (26)
ولقد يسَّرنا لعاد أسباب التمكين في الدنيا على نحوٍ لم نمكنكم فيه معشر كفار قريش, وجعلنا لهم سمعًا يسمعون به, وأبصارًا يبصرون بها, وأفئدة يعقلون بها, فاستعملوها فيما يسخط الله عليهم, فلم تغن عنهم شيئًا إذ كانوا يكذِّبون بحجج الله, ونزل بهم من العذاب ما سخروا به واستعجلوه. وهذا وعيد من الله جل شأنه, وتحذير للكافرين.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنْ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)
ولقد أهلكنا ما حولكم يا أهل "مكة" من القرى كعاد وثمود, فجعلناها خاوية على عروشها, وبيَّنَّا لهم أنواع الحجج والدلالات ؛ لعلهم يرجعون عما كانوا عليه من الكفر بالله وآياته.
فَلَوْلا نَصَرَهُمْ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
فهلا نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية آلهتُهم التي اتخذوا عبادتها قربانًا يتقربون بها إلى ربهم; لتشفع لهم عنده, بل ضلَّت عنهم آلهتهم, فلم يجيبوهم, ولا دافعوا عنهم, وذلك كذبهم وما كانوا يَفْتَرون في اتخاذهم إياهم آلهة.
505
سورة الأحقاف الجزء السادس و العشرون
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
واذكر -أيها الرسول- حين بعثنا إليك, طائفة من الجن يستمعون منك القرآن, فلما حضروا, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ, قال بعضهم لبعض: أنصتوا; لنستمع القرآن, فلما فرغ الرسول من تلاوة القرآن, وقد وعَوه وأثَّر فيهم, رجعوا إلى قومهم منذرين ومحذرين لهم بأس الله, إن لم يؤمنوا به.
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
قالوا: يا قومنا إنا سمعنا كتابًا أنزل من بعد موسى, مصدقًا لما قبله من كتب الله التي أنزلها على رسله, يهدي إلى الحق والصواب, وإلى طريق صحيح مستقيم.
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)
يا قومنا أجيبوا رسول الله محمدًا إلى ما يدعوكم إليه, وصدِّقوه واعملوا بما جاءكم به, يغفر الله لكم من ذنوبكم وينقذكم من عذاب مؤلم موجع.
وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)
ومن لا يُجِبْ رسول الله إلى ما دعا إليه فليس بمعجز الله في الأرض إذا أراد عقوبته, وليس له من دون الله أنصار يمنعونه من عذابه, أولئك في ذَهاب واضح عن الحق.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
أغَفَلوا ولم يعلموا أنَّ الله الذي خلق السموات والأرض على غير مثال سبق, ولم يعجز عن خلقهن, قادر على إحياء الموتى الذين خلقهم أوّلا؟ بلى, ذلك أمر يسير على الله تعالى الذي لا يعجزه شيء, إنه على كل شيء قدير.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
ويوم القيامة يُعْرَض الذين كفروا على نار جهنم للعذاب فيقال لهم: أليس هذا العذاب بالحق؟ فيجيبون قائلين: بلى وربنا هو الحق, فيقال لهم: فذوقوا العذاب بما كنتم تجحدون عذاب النار وتنكرونه في الدنيا.
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
فاصبر -أيها الرسول- على ما أصابك مِن أذى قومك المكذبين لك, كما صبر أولو العزم من الرسل من قبلك- وهم، على المشهور: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وأنت منهم- ولا تستعجل لقومك العذاب; فحين يقع ويرونه كأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار, هذا بلاغ لهم ولغيرهم. ولا يُهْلَكُ بعذاب الله إلا القوم الخارجون عن أمره وطاعته.
506
47 - سورة محمد - مدنية - عدد آياتها 38
سورة محمد r الجزء السادس و العشرون
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)
الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له, وصدوا الناس عن دينه, أَذْهَبَ الله أعمالهم, وأبطلها, وأشقاهم بسببها.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
والذين صدَّقوا الله واتَّبَعوا شرعه وصدَّقوا بالكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الحق الذي لا شك فيه من ربهم, عفا عنهم وستر عليهم ما عملوا من السيئات, فلم يعاقبهم عليها, وأصلح شأنهم في الدينا والآخرة.
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
ذلك الإضلال والهدى سببه أن الذين كفروا اتَّبَعوا الشيطان فأطاعوه, وأن الذين آمنوا اتَّبَعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من النور والهدى, كما بيَّن الله تعالى فِعْلَه بالفريقين أهل الكفر وأهل الإيمان بما يستحقان يضرب سبحانه للناس أمثالهم, فيلحق بكل قوم من الأمثال والأشكال ما يناسبه.
فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
فإذا لقيتم- أيها المؤمنون- الذين كفروا في ساحات الحرب فاصدقوهم القتال, واضربوا منهم الأعناق, حتى إذا أضعفتموهم بكثرة القتل, وكسرتم شوكتهم, فأحكموا قيد الأسرى: فإما أن تَمُنُّوا عليهم بفك أسرهم بغير عوض, وإما أن يفادوا أنفسهم بالمال أو غيره, وإما أن يُسْتَرَقُّوا أو يُقْتَلوا, واستمِرُّوا على ذلك حتى تنتهي الحرب. ذلك الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين ومداولة الأيام بينهم, ولو يشاء الله لانتصر للمؤمنين من الكافرين بغير قتال, ولكن جعل عقوبتهم على أيديكم, فشرع الجهاد؛ ليختبركم بهم, ولينصر بكم دينه. والذين قُتلوا في سبيل الله من المؤمنين فلن يُبْطِل الله ثواب أعمالهم, سيوفقهم أيام حياتهم في الدنيا إلى طاعته ومرضاته, ويُصْلح حالهم وأمورهم وثوابهم في الدنيا والآخرة, ويدخلهم الجنة, عرَّفهم بها ونعتها لهم، ووفقهم للقيام بما أمرهم به -ومن جملته الشهادة في سبيله-، ثم عرَّفهم إذا دخلوا الجنة منازلهم بها.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إن تنصروا دين الله بالجهاد في سبيله, والحكم بكتابه, وامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, ينصركم الله على أعدائكم, ويثبت أقدامكم عند القتال.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
والذين كفروا فهلاكًا لهم, وأذهب الله ثواب أعمالهم؛ ذلك بسبب أنهم كرهوا كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكذبوا به, فأبطل أعمالهم; لأنها كانت في طاعة الشيطان.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)
أفلم يَسِرْ هؤلاء الكفار في أرض الله معتبرين بما حلَّ بالأمم المكذبة قبلهم من العقاب؟ دمَّر الله عليهم ديارهم, وللكافرين أمثال تلك العاقبة التي حلت بتلك الأمم.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ (11)
ذلك الذي فعلناه بالفريقين فريق الإيمان وفريق الكفر; بسبب أن الله وليُّ المؤمنين ونصيرهم, وأن الكافرين لا وليَّ لهم ولا نصير.
507
سورة محمد r الجزء السادس و العشرون
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
إن الله يدخل الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار تَكْرِمَةً لهم, ومثل الذين كفروا في أكلهم وتمتعهم بالدنيا, كمثل الأنعام من البهائم التي لا همَّ لها إلا في الاعتلاف دون غيره, ونار جهنم مسكن لهم ومأوى.
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
وكثير من أهل قرى كانوا أشد بأسًا من أهل قريتك -أيها الرسول, وهي "مكة"- التي أخرجتك, دمَّرناهم بأنواع من العذاب, فلم يكن لهم نصير ينصرهم من عذاب الله.
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
أفمن كان على برهان واضح من ربه والعلم بوحدانيته, كمن حسَّن له الشيطان قبيح عمله, واتبع ما دعته إليه نفسه من معصية الله وعبادة غيره مِن غير حجة ولا برهان؟ لا يستوون.
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
صفة الجنة التي وعدها الله المتقين: فيها أنهارٌ عظيمة من ماء غير متغيِّر, وأنهار من لبن لم يتغيَّر طعمه, وأنهار من خمر يتلذذ به الشاربون, وأنهار من عسل قد صُفِّي من القذى, ولهؤلاء المتقين في هذه الجنة جميع الثمرات من مختلف الفواكه وغيرها, وأعظم من ذلك السَّتر والتجاوزُ عن ذنوبهم, هل مَن هو في هذه الجنة كمَن هو ماكث في النار لا يخرج منها, وسُقوا ماء تناهى في شدة حره فقطَّع أمعاءهم؟
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
ومن هؤلاء المنافقين مَن يستمع إليك -أيها النبي- بغير فهم؛ تهاونًا منهم واستخفافًا, حتى إذا انصرفوا من مجلسك قالوا لمن حضروا مجلسك من أهل العلم بكتاب الله على سبيل الاستهزاء: ماذا قال محمد الآن؟ أولئك الذين ختم الله على قلوبهم, فلا تفقه الحق ولا تهتدي إليه, واتبعوا أهواءهم في الكفر والضلال.
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17)
والذين اهتدوا لاتِّباع الحق زادهم الله هدى, فقوي بذلك هداهم, ووفقهم للتقوى, ويسَّرها لهم.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا الساعة التي وُعدوا بها أن تجيئهم فجأةً, فقد ظهرت علاماتها ولم ينتفعوا بذلك, فمن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة؟
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
فاعلم -أيها النبي- أنه لا معبود بحق إلا الله, واستغفر لذنبك, واستغفر للمؤمنين والمؤمنات. والله يعلم تصرفكم في يقظتكم نهارًا, ومستقركم في نومكم ليلا.
508
سورة محمد r الجزء السادس و العشرون
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ (21)
ويقول الذين آمنوا بالله ورسوله: هلا نُزِّلت سورة من الله تأمرنا بجهاد الكفار, فإذا أُنزِلت سورة محكمة بالبيان والفرائض وذُكر فيها الجهاد, رأيت الذين في قلوبهم شك في دين الله ونفاق ينظرون إليك -أيها النبي- نظر الذي قد غُشِيَ عليه خوفَ الموت, فأولى لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض أن يطيعوا الله, وأن يقولوا قولا موافقًا للشرع. فإذا وجب القتال وجاء أمر الله بِفَرْضه كره هؤلاء المنافقون ذلك, فلو صدقوا الله في الإيمان والعمل لكان خيرًا لهم من المعصية والمخالفة.
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)
فلعلكم إن أعرضتم عن كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن تعصوا الله في الأرض, فتكفروا به وتسفكوا الدماء وتُقَطِّعوا أرحامكم.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
أولئك الذين أبعدهم الله من رحمته, فجعلهم لا يسمعون ما ينفعهم ولا يبصرونه, فلم يتبينوا حجج الله مع كثرتها.
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ القرآن ويتفكرون في حججه؟ بل هذه القلوب مغلَقة لا يصل إليها شيء من هذا القرآن, فلا تتدبر مواعظ الله وعبره.
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)
إن الذين ارتدُّوا عن الهدى والإيمان, ورجعوا على أعقابهم كفارًا بالله من بعد ما وَضَح لهم الحق, الشيطان زيَّن لهم خطاياهم, ومدَّ لهم في الأمل.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)
ذلك الإمداد لهم حتى يتمادوا في الكفر ; بسبب أنهم قالوا لليهود الذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر الذي هو خلاف لأمر الله وأمر رسوله, والله تعالى يعلم ما يخفيه هؤلاء ويسرونه, فليحذر المسلم من طاعة غير الله فيما يخالف أمر الله سبحانه, وأمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)
فكيف حالهم إذا قبضت الملائكة أرواحهم وهم يضربون وجوههم وأدبارهم؟
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
ذلك العذاب الذي استحقوه ونالوه؛ بسبب أنهم اتبعوا ما أسخط الله عليهم من طاعة الشيطان, وكرهوا ما يرضيه عنهم من العمل الصالح, ومنه قتال الكفار بعدما افترضه عليهم, فأبطل الله ثواب أعمالهم من صدقة وصلة رحم وغير ذلك.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)
بل أظنَّ المنافقون أن الله لن يُخْرِج ما في قلوبهم من الحسد والحقد للإسلام وأهله؟ بلى فإن الله يميز الصادق من الكاذب.
509
سورة محمد r الجزء السادس و العشرون
وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
ولو نشاء -أيها النبي- لأريناك أشخاصهم, فلعرفتهم بعلامات ظاهرة فيهم, ولتعرفنَّهم فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم. والله تعالى لا تخفى عليه أعمال مَن أطاعه ولا أعمال من عصاه, وسيجازي كلا بما يستحق.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
ولنختبرنكم- أيها المؤمنون- بالقتال والجهاد لأعداء الله حتى يظهر ما علمه سبحانه في الأزل؛ لنميز أهل الجهاد منكم والصبر على قتال أعداء الله, ونختبر أقوالكم وأفعالكم, فيظهر الصادق منكم من الكاذب.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
إن الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له, وصدوا الناس عن دينه, وخالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاربوه من بعد ما جاءتهم الحجج والآيات أنه نبي من عند الله, لن يضروا دين الله شيئًا, وسيُبْطِل ثواب أعمالهم التي عملوها في الدنيا؛ لأنهم لم يريدوا بها وجه الله تعالى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في أمرهما ونهيهما, ولا تبطلوا ثواب أعمالكم بالكفر والمعاصي.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
إن الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له وصدُّوا الناس عن دينه, ثم ماتوا على ذلك, فلن يغفر الله لهم, وسيعذبهم عقابًا لهم على كفرهم, ويفضحهم على رؤوس الأشهاد.
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
فلا تضعفوا -أيها المؤمنون بالله ورسوله- عن جهاد المشركين, وتجْبُنوا عن قتالهم, وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة, وأنتم القاهرون لهم والعالون عليهم, والله تعالى معكم بنصره وتأييده. وفي ذلك بشارة عظيمة بالنصر والظَّفَر على الأعداء. ولن يُنْقصكم الله ثواب أعمالكم.
إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)
إنما الحياة الدنيا لعب وغرور. وإن تؤمنوا بالله ورسوله, وتتقوا الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه, يؤتكم ثواب أعمالكم, ولا يسألْكم إخراج أموالكم جميعها في الزكاة, بل يسألكم إخراج بعضها. إن يسألكم أموالكم, فيُلِحَّ عليكم ويجهدكم, تبخلوا بها وتمنعوه إياها, ويظهر ما في قلوبكم من الحقد إذا طلب منكم ما تكرهون بذله.
هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
ها أنتم -أيها المؤمنون- تُدْعَون إلى النفقة في جهاد أعداء الله ونصرة دينه, فمنكم مَن يَبْخَلُ بالنفقة في سبيل الله, ومَن يَبْخَلْ فإنما يبخل عن نفسه, والله تعالى هو الغنيُّ عنكم وأنتم الفقراء إليه, وإن تتولوا عن الإيمان بالله وامتثال أمره يهلكُّم, ويأت بقوم آخرين, ثم لا يكونوا أمثالكم في التولي عن أمر الله, بل يطيعونه ويطيعون رسوله, ويجاهدون في سبيله بأموالهم وأنفسهم.
510
48 - سورة الفتح - مدنية - عدد آياتها 29
سورة الفتح الجزء السادس و العشرون
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)
إنا فتحنا لك -أيها الرسول- فتحًا مبينًا, يظهر الله فيه دينك, وينصرك على عدوك, وهو هدنة "الحديبية" التي أمن الناس بسببها بعضهم بعضًا, فاتسعت دائرة الدعوة لدين الله, وتمكن من يريد الوقوف على حقيقة الإسلام مِن معرفته, فدخل الناس تلك المدة في دين الله أفواجًا؛ ولذلك سمَّاه الله فتحًا مبينًا، أي ظاهرًا جليًّا.
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)
فتحنا لك ذلك الفتح, ويسَّرناه لك؛ ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؛ بسبب ما حصل من هذا الفتح من الطاعات الكثيرة وبما تحملته من المشقات, ويتم نعمته عليك بإظهار دينك ونصرك على أعدائك, ويرشدك طريقًا مستقيمًا من الدين لا عوج فيه، وينصرك الله نصرًا قويًّا لا يَضْعُف فيه الإسلام.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)
هو الله الذي أنزل الطمأنينة في قلوب المؤمنين بالله ورسوله يوم "الحديبية" فسكنت, ورسخ اليقين فيها؛ ليزدادوا تصديقًا لله واتباعًا لرسوله مع تصديقهم واتباعهم. ولله سبحانه وتعالى جنود السموات والأرض ينصر بهم عباده المؤمنين. وكان الله عليمًا بمصالح خلقه, حكيمًا في تدبيره وصنعه.
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5)
ليدخل الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري مِن تحت أشجارها وقصورها الأنهار, ماكثين فيها أبدًا, ويمحو عنهم سيِّئ ما عملوا, فلا يعاقبهم عليه, وكان ذلك الجزاء عند الله نجاة من كل غم, وظَفَرًا بكل مطلوب.
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً (6)
ويعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين يظنون ظنًا سيئًا بالله أنه لن ينصر نبيه والمؤمنين معه على أعدائهم, ولن يُظهر دينه, فعلى هؤلاء تدور دائرة العذاب وكل ما يسوءهم, وغضب الله عليهم, وطردهم من رحمته, وأعدَّ لهم نار جهنم, وساءت منزلا يصيرون إليه.
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)
ولله سبحانه وتعالى جنود السموات والأرض يؤيد بهم عباده المؤمنين. وكان الله عزيزًا على خلقه, حكيمًا في تدبير أمورهم.
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (
إنا أرسلناك -أيها الرسول- شاهدًا على أمتك بالبلاغ, مبينًا لهم ما أرسلناك به إليهم, ومبشرًا لمن أطاعك بالجنة, ونذيرًا لمن عصاك بالعقاب العاجل والآجل؛ لتؤمنوا بالله ورسوله, وتنصروا الله بنصر دينه, وتعظموه, وتسبحوه أول النهار وآخره.
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)
إن الذين يبايعونك -أيها النبي- بـ "الحديبية" على القتال إنما يبايعون الله, ويعقدون العقد معه ابتغاء جنته ورضوانه, يد الله فوق أيديهم, فهو معهم يسمع أقوالهم, ويرى مكانهم, ويعلم ضمائرهم وظواهرهم, فمن نقض بيعته فإنما يعود وبال ذلك على نفسه, ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدو في سبيل الله ونصرة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, فسيعطيه الله ثوابًا جزيلا وهو الجنة. وفي الآية إثبات صفة اليد لله تعالى بما يليق به سبحانه, دون تشبيه ولا تكييف.
511
سورة الفتح الجزء السادس و العشرون
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)
سيقول لك -أيها النبي- الذين تخلَّفوا من الأعراب عن الخروج معك إلى "مكة" إذا عاتبتهم: شغلتنا أموالنا وأهلونا, فاسأل ربك أن يغفر لنا تخلُّفنا, يقولون ذلك بألسنتهم, ولا حقيقة له في قلوبهم, قل لهم: فمن يملك لكم من الله شيئًا إن أراد بكم شرًا أو خيرًا؟ ليس الأمر كما ظن هؤلاء المنافقون أن الله لا يعلم ما انطوت عليه بواطنهم من النفاق, بل إنه سبحانه كان بما يعملون خبيرًا, لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه.
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12)
وليس الأمر كما زعمتم من انشغالكم بالأموال والأهل, بل إنكم ظننتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه سيَهْلكون, ولا يَرْجعون إليكم أبدًا, وحسَّن الشيطان ذلك في قلوبكم, وظننتم ظنًا سيئًا أن الله لن ينصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أعدائهم, وكنتم قومًا هَلْكى لا خير فيكم.
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً (13)
ومن لم يصدِّق بالله وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم ويعمل بشرعه, فإنه كافر مستحق للعقاب, فإنا أعددنا للكافرين عذاب السعير في النار.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)
ولله ملك السموات والأرض وما فيهما, يتجاوز برحمته عمن يشاء فيستر ذنبه, ويعذِّب بعدله من يشاء. وكان الله سبحانه وتعالى غفورًا لمن تاب إليه, رحيمًا به.
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)
سيقول المخلَّفون, إذا انطلقت -أيها النبي- أنت وأصحابك إلى غنائم "خيبر" التي وعدكم الله بها, اتركونا نذهب معكم إلى "خيبر", يريدون أن يغيِّروا بذلك وعد الله لكم. قل لهم: لن تخرجوا معنا إلى "خيبر"؛ لأن الله تعالى قال لنا من قبل رجوعنا إلى "المدينة": إن غنائم "خيبر" هي لمن شهد "الحديبية" معنا, فسيقولون: ليس الأمر كما تقولون, إن الله لم يأمركم بهذا, إنكم تمنعوننا من الخروج معكم حسدًا منكم؛ لئلا نصيب معكم الغنيمة, وليس الأمر كما زعموا, بل كانوا لا يفقهون عن الله ما لهم وما عليهم من أمر الدين إلا يسيرًا.
512
الثلاثاء يناير 30, 2018 12:24 pm من طرف أبويحيى
» كتاب:موسوعة ألف اختراع واختراع - التراث الإسلامي في عالمنا المؤلف :البروفيسور سليم الحسني
الأربعاء يناير 24, 2018 10:03 pm من طرف أبويحيى
» أخبار برشلونى اليوم
الأربعاء يناير 24, 2018 9:48 pm من طرف أبويحيى
» روابط مشاهدة جميع المباريات بدون تقطيع
الأربعاء يناير 24, 2018 9:44 pm من طرف أبويحيى
» منج الفلسفة والمنطق لعام 2016 الجديد
الأحد سبتمبر 13, 2015 8:38 pm من طرف أبويحيى
» مذكرة الصف الأول الثانوى الجديد لعام 2015
الأربعاء مارس 18, 2015 8:00 pm من طرف أبويحيى
» تحميل لعبة كرة القدم pes 2015 مجانا ً وبروابط مباشرة
السبت يناير 24, 2015 11:59 am من طرف أبويحيى
» اقوى مذكرة ادب وورد للصف الاول الثانوى مدعمة بتدريبات الاسئلة بمواصفات جديدة لواضع الاسئلة 2014
الإثنين أكتوبر 20, 2014 12:06 am من طرف أبويحيى
» مذكرة الاستاذ عبدة الجعر مراجعة قصة ابو الفوارس فصل فصل شامل كل الاسئلة الامتحانية بمواصفات 2014
الإثنين أكتوبر 20, 2014 12:04 am من طرف أبويحيى